مراجعة لرواية "ماجدولين لطفي المنفلوطي"
بعيدا عن الرواية أول ما يخطر ببالي عند ذكر المنفلوطي هو رجل متأنق يهتم بهندامه ونظافته حد الهوس ، باسم الثغر على الدوام ، ابتسامة لا تنقص من هيبته شيئا بل تزيده مهابة عند ناظريه، لا يفارقه قلمه الفضي قانص خواطره، لين القلب سمح الطباع، لايغتر بمركزه يحنو على الصغير قبل الكبير ،يحلو مجلسه وجواره لا يبالغ في انتقاء كلماته بل كأنه يعزف لحنا يطرب له جليسه ، ما أعذب كلماته وما أروع أدبه...فهكذا صورته وأحسب أنه أحسن مما تخيلت.
أما روايته هذه "ماجدولين" لوحة فنية، فتنتمي للأدب الرومنسي عربها المنفلوطي زادتها جمالية ،هي صراع بين البراءة والخبث ؛ إستيفن عاشق برئ صادق حتى آخر لحظة من حياته ، عاش في مجتمع قروي حافظ على فطرته السليمة بعيدا عن مظاهر المدينة و بهرجتها وقناعها المزيف ، فلم يتغير معدنه بتغير أوضاعه ،أحب ماجدولين القروية الفقيرة هي الأخرى تعاهدا على الوفاء حتى يكتب لهما الله اللقاء في ظروف أحسن ، يهاجر عنها إستيفن بجسده لا بقلبه مكرها لتحسين أوضاعه المالية ليكون أهلا للزواج بها ويجمعهما بيت واحد، فيبقى على العهد رغم قسوة الحياة ، ماجدولين الفتاة الجميلة تنزل ضيفة عند صديقتها سوزن، فتقيم بمدينتها لمدة من الزمن فتتأثر طباعها بطباع أهلها ، تركت للمحيطين بها رسم خريطة حياتها المستقبلية ، آثرت الزواج والحياة الرغدة مع إدوار الشاب الجميل الغني صديق إستيفن على الحب النقي من كل شوائب الدنيا ومغرياتتا وخلفت وعدها ظنا منها أن الحب الذي يجمعها و إستيفن لا يلبث طويلا حتى تنطفأ شعلته بسبب فاقته ، وصور الكاتب أنها أشفقت عليه من البؤس الذي سيلحقهما إن تزوجا ، انقيادا لنصائح صديقتها سوزن و إغراء إدوار . ينصدم إستيفن لهذه الحقيقة ويمرض مرضا شديدا، لكنه لم يستطع أن ينظر إليها إلا بعين المحب حتى بعد خيانتها، ينجح في حياته المهنية الموسيقية ويشتهر شهرة واسعة ، لكن نجاحه لم يعزيه في فقدان ماجدولين.
بعد صدود إدوار عنها وإنشغاله بالقمار ، إستفاقت ماجدولين من الحلم الكاذب الذي كانت تمني النفس به، ندمت على الخيبة التي سببتها لإستيفن ،أدركت أنها خسرت قلب إستيفن ،و حياة العز مع إدوار وولعه بها معا، فبعد انتحاره لم تجد غير ضحيتها واقفا بجنبها معينا لها هي ورضيعتها، حاولت إستعطافه ليصفح عن خيانتها لكنه أبى على الرغم من حبه الشديد لها.
نهاية الرواية مأساوية ، لكن لو رويت من قبل كاتب غير المنفلوطي ربما لم تنل كل تلك الشهرة ، لجمالية أسلوبه في الوصف، كأنه جملها وألبسها ثوبا براقا غير ثوبها لأننا لو تأملنا القصة بأحداثها لا أقول عادية ولكن ربما تكون مبالغا فيها وغير واقعية، لكنني أؤمن بوجود شخصية إستيفن بيننا .
أعجبني تفسير الراوي للأحداث ، و الحجج التي ساقها حول تأثير سوزان على قرارات ماجدولين، فلم يلم سوزان على الرأي الذي نصحت به صديقتها لأنها رأت لها ما رأت لنفسها، أما إدوار بنظري فلا شيء يبرر خيانته لصديق طفولته، وماجدولين التي ادعت حب إستيفن في البداية والنهاية معا ، عذرا ولكن لا يصدق عاقل أنها أحبته ،المحب لا يهجر محبه لعارض زائل ، ربما هيأ إليها أنها كذلك ، أو أعجبت بأخلاقه فتوهمت أنها تحبه، كنت أترقب أن يذكر الكاتب أمرا عظيما حال بينها وبين البقاء على وفائها لإستيفن ، لكنه لم يأت على ذكر سبب يبرر فعلتها غير طمعها في العيش الرغد بجوار شخص خدعت بمغازلاته و قناعه الذي ما لبث أن سقط عند أول عثرة، أما تصوير الكاتب في نهاية القصة لشعور ماجدولين فأظنه ندما لما اقترفته وليس حبا صافيا.
إستيفن شخصية بريئة قل نظيرها، ليس بالجبان ولا بالضعيف إنما قوي النفس معتزا بها ، طباعه سمحة، متحكم بجوارحه أبدع المنفلوطي في تصوريها.
إستخدم الراوي أسلوب المراسلات لنقل أحداث القصة، فكان أسلوبه ممتعا سلسا لغته بليغة حلوة كأنها مقطوعة موسيقية ، تتذوق كلماته ، فستشعر بمعاناة البائس إستيفن ، وينتابك الغضب اتجاه ماجدولين ، وتحس دناءة نفس إدوار..... حتما ستتسمتع بقراءة هذه الرواية .
مصطفى لطفي بن محمد لطفي بن حسن لطفي ، إشتهر بالمنفلوطي نسبة لمدينة منفلوط بمصر مسقط رأسه ، فهو شاعر وأديب مصري، وهو من أشهر أدباء النهضة، ولد سنة 1876 من أب مصري وأم تركية، يتميز بأسلوب فريد وأسلوب أدبي بديع،من أهم مؤلفاته، النظرات ، العبرات، في سبيل التاج، ورواية بول وفرجيني، الشاعر.... وتوفي سنة 1914 بالقاهرة.